جنون وتحدٍ

الثلاثاء في 29/11/1988

خيي شربل..

تحياتي وأمنياتي لك بالتوفيق.. وبعد

فقد ألبستني من الأثواب ما جاءت على مقاييس عديدة، فكيف أرد لك بعضاً من جميلك ومعروفك؟ يكفي منك (خيي زهير) في عصر ماتت فيه أرواح الأشقاء.. وجدت في كلماتك كل معاني الأخوة، فلماذا نتشرذم ونتقاتل على المادة باسم التمدن وانتشار العدالة ـ الممطوطة ـ أفراحي ما زالت تصبو إلى أن أدخلت الفرحة في قلبك، لكن هذه الأفراح جاءت في أعسر الأوقات.

أكتب إليك هذه الأسطر وأنا في مستشفى فيرفاكس، عقب زيارة أم العيال، التي أجرت البارحة عملية في قلبها، الذي تحمّل قساوة هذه المرارة، هذه الحياة.. واستمرت العملية الجراحية من الواحدة والنصف إلى الخامسة، وعدت إلى البيت فوجدت النسخ الثماني عشرة مع الجريدة (صدى لبنان)، صدى الحق والقوة، كم كان سروري بها عظيماً، لكن رؤية أم العيال عقب العملية الجراحية أسكت فيّ منافذ البهجة. سأعود إلى الجريدة، طبعاً، وأشكر كل من تفضّل فشكر لي جهدي المتواضع بكتابة ما أحسست به، وأنا أتصفّح بنبضات قلبي كلماتك، وأقرأ فيها المآسي وأصرخ معك على المجانين، حتى عدّوني واحداً منهم، وعلى ألأقل صنّفت مع أهل الغفلة فتصور؟..

وقبلت هذا الجنون والتحدي، وكأن الحياة دراهم وشيكات!.. قالوا: أتكتب هكذا؟.. قلت: أكتب هكذا، وفق خطي أنا لا خطكم.

وقالوا: أتقدم نتاجك إلى أستراليا ولا تدري ما الذي سيكون؟ قلت لهم: إني أعرف ما سيكون، إنها أمانة مرسلة من أخ إلى أخ أعز، عرفته عزيز الجانب، عرفته عزيزاً كريم لمحتد لأني قرأته لا كما قرأتم أنتم أشعاره، وعرفت مواقفه لا كما ادعيتم انكم تعرفون مواقفه وأهدافه.. كما عرفتها.

وكثر الجدل وطال بين مدّ يودون إغراقي بسوطة مميتة، وجزر يثبتون فيه أن الجحود بين البشر هو الأصل.. وتأخرت الدراسة إليك برهة من زمن، حتى أكملت النظرة الواثقة من أني قمت بواجب تجاه أخ عشت بشغاف قصائده، وأحسست بما بها، لا كما أحسوا وأرادوا، وكأن النتاج صفعة على وجههم.

وقلت لهم: سأرسلها.. فاستغربوا: أترسلها بدون عقد وربط؟ وقلت لهم: ستطبع على نفقة قائلها.. فاشتد استغرابهم. واطمأنت نفسي أنها سافرت إليك، قبيل سفري ورحلتي إلى هذا البلد.

فألف شكر لهذه النيات الطيبة التي جمعتنا، وللأهداف التي قوت إيماننا بالكلمة. وألف شكر لهذه الاسرة اللبنانية التي تفضلت بشكري، وقد حملتني مسؤولية البحث عن أسلوب أخوي، أود به أن أد على شكرهم، وليس لي سوى المزيد من الصلة الأخوية، والمزيد من المودة والوفاء، والمزيد من التخطيط لدراسات مستقبلية قادمة، نرفع بها كل نتاج إلى أفقه، فليقبلوني كلمة متواضعة على شفاههم.

ولصدى لبنان كل الامتنان، فملأت صفحة من جوانحها، وأنا الانسان المتواضع جداً، أبحث عن ظلال الزيتون والارز لأحتمي من لمعة شمس. فمنذ الخامس من الشهر الحادي عشر، ونحن ننتقل من مستشفى إلى مستشفى، فالأولى كانت مستشفى ميل، والثانية مستشفى ألاكسندريا، والثالثة فيفاكس.. الآن، وقبيل إجراء العملية أخذوا التواقيع تلو التواقيع، ليضمنوا التكاليف، إذ ليس هنا تأمين صحي إلا لمن يشترك بمؤسسات تكفل له النفقات، وأنا جئت إلى هنا في 28/9/1988. المهم.. أن امورها الصحية على خير، وقد أجرى لها العملية الجراحية الدكتور ماهر عقل من الحازمية، متخرج من الجامعة اليسوعية، وهات حديث عن لبنان وأحداثه، وأحداثه دماء لم تكن لتشفي غليل قاتل أو قناص مأجور، أو متهور مأفون.

لك أيها الأخ النجي أن تعذرني على تأخر رسائلي، ففي هذه الأيام أصحو الساعة الخامسة والنصف، لأستعد إلى الذهاب إلى الأكاديمية لتدريس اللغة العربية. فأنا موضوع تحت التجربة، أصلح للتدريس أم لا أصلح؟ تلك هي القضية كما قال شكسبير.

الراتب الشهري متواضع، وأكرم بالتواضع، وإذ لا يحق لي فرض أي شرط، ولم ينظروا إلى خبرتي بالتدريس بدءاً من المرحلة الابتدائية، إلى المتوسطة، إلى الثانوية، إلى الجامعة. الابتزاز وصل إلى هذه الدرجة، وأنا أقبل وأعرف، فلديّ ما يثبت التدريس بالمراحل الأولى، لكن تدريسي لطلاب الجامعة كان تدريساً خاصاً، فمنذ منحوني الإقالة من العمل باسم الاستقالة، وأنا أدبر شؤوني الخاصة. اعذرني كيف اشتطّ قلمي إليك بهذه الأمور، وأنا أتمنى أن نلتقي بأستراليا لأقوم بتدريس العربية وسواها من دروس النقد مع ألأدب الحديث، لكن لا تقلق، واطمئن، مهما كانت الظروف. ولعلي أجد زاوية في كل أسبوع ارسلها إلى صدى لبنان، فما رأيك؟

لتعذرني الدكتورة سمر فقد تأخرت رسالتي عن كتابها (البيت في ساحة عرنوس)، وكل سطر عنها قد هيأته نفسي. بأقرب فرصة أرسل كلمتي عما خطته أناملها.. فعذراً.

سررت حين أبلغني أخونا نعمان حرب من أن فرع الحزب بالسويداء أقام له حفلة تكريم بمناسبة منحه جائزة جبران، وأن مجلس المدينة قد قرر تكريمه. إنه يستحق كل تشجيع، وكل تقدير، فهو الدؤوب على نشر القبسات. ولا أنسى يوم جاء مع ألأخ مدحة لتوديعي، وكانت لفتة كريمة منه ومن الأخ مدحة أن عرضا علي كل مساعدة ممكنة، وأنا الذي بعت غرفة نومي وثيابي وأدوات الطعام والكتب والأثاث حتى لا أمد يدي لأحد بقرض أو مساعدة أو.. أو.. بل كنت أوزّع ما اشتريته بعرق جبيني إلى من أجد عنده فضيلة التعفف.

لعلك لو تفضلت عليّ فأكرمتني بإرسال النتاج الأدبي والفكري الذي تخطّه القلوب المحبة للأدب وللإنسان ولله.

يا خيي شربل..

أنا ما كرهت يوماً أمطار بلدي، إذا عم قطرها كل يد تضرعت بعد جوع. ولا تأففت لحظة من رعودها لتحيي القلوب الصدئة. ولا خفت من زلازلها التي تمحو المستنقعات المنتشرة في غرف شهريار. ولا حبست أنفاسي من فيضان يبحث عن نوح، ومعه زوجان من كل كائن.. لكنني وجدت الانسان مغتالاً من الثقوب السوداء التي حفرت بأبواب ألأبنوس، لتقتل، لتصطاد، لتنهب، فبعد أن قتلت الروح احتلت المسكن شبراً ونهباً. والأغرب من هذا أنها ثقوب ترفع راية الثورة الفرنسية ، هذه الثورة التي هدمت الباستيل. لكن ثورات عديدة ما قامت إلا على قلاع من الباستيل، الباستيل المتحدث الرسمي باسم الحضارة المتخلفة. واعذرني خيي شربل كم تطول بنا الأحلام وتحلو، وكم يرهف الحس لدى سماع عصفور يعندل في زحمة القطب والصقيع.

وبانتظار أن تفتح لي زاوية متواضعة صدى لبنان، ولأقرأ فيها أبجدية ألاسبوع، أرجو أن يتقبل مني أبناء مجدليا في لبنان وأستراليا، وصحيفة صدى لبنان، ودار راليا للطباعة، ورابطة إحياء التراث العربي، وكل أصدقاء الشاعر شربل، طبعاً هم أصدقائي، كل التقدير والاحترام، وأن يصدر لي عفوهم عن عبارة ألأديب الكبير، فحسن ظنهم بي، وثقتهم بي، ومحبتي لهم، عربون وفاء على مدى الأيام..

عدت الآن من المستشفى مساءً الساعة الثامنة، عقب انتهاء عملية زرع الأوردة المغذية للقلب، وكانت الأحوال جيدة ولله الحمد، ولأسمع دعواتك لها بالشفاء وعودة الصحة.

واسلم لأخيك خيي شربل

محمد زهير الباشا
**