الرحيل إلى فرجينيا

22/10/1988

الأخ الأوفى شربل بعيني المحترم

تحية صدق ووفاء وأشواق وبعد

فاليوم وصلت إلي رسالتك المكتوبة بخط يدك الطيبة، وسررت كثيراً لوصول دراستي المتواضعة عنك. فأنت الشاعر الذي أدرك من مفاهيم الكون ما لا يدركه غيرك، ووضعت يدك على اسرار هذا الوجود وضع من يعرف ويناقش ويستوعب، فلا ضبابية ولا انطلاق في مساحات الوهم ومشارف الخيال، بل جندت خيالك وأحلامك وطموحاتك لتكتب حروفك بتوهج فؤادك، فكانت دواوين لهوى الفؤاد، وملاذاً لكل خفقة تألمت من وباء هذا العصر وأمراضه، ولا مجال لأي احصاء عالمي أن يعد هذه الأمراض بدءاً وانتهاء مما هو كائن على البسيطة.. اسمه الإنسان.

وكنت اسجل مقاطع الدراسة في وقت صعب جداً، ولكني تابعت وتابعت رغم الأقاويل.. رغم أن الكثيرين يودون أن يأكلوا لحوم الآخرين، وسررت بأن العمل جارٍ على طباعة تلك الدراسة.



ومع السرور.. ان كتاب الاستاذ كامل المر في مشواره، جاء إلي مع رسالتك، وإن أولى الرسائل خارج حدود العالم الجديد قد وصلتني من يد ابنتي القاطنة في لندن. وكانت رسالتك الأولى من أستراليا، فكان لها الوقع المفرح في قلبي.

الآن توزّعت أسرة الباشا إلى قارات ثلاث: الإبنة في لندن.. شمل ألأسرة في أميركا.. بقية جذور الاسرة في الجزائر.. أخت واحدة ووحيدة في دمشق. وليتني أستطيع أن أشرح ما أنا فيه من عذاب لفراق الوطن، وأن أشرح لك ما هي الأسباب التي ادت الى خروجي منه.

كنت في الوطن غريباً، والغربة فتاكة في حضن من تهواه وما تهواه، وقد فقدت كثيراً من العناصر الإنسانية في أرض الوطن، وصبرت، وصبرت، حتى استطعت أن أهيىء لأبنائي الحياة الصعبة في هذا العالم الجديد. وإنها، أيها الأخ الأعز، ليست رحلة إلى هذا العالم المتفجر بالعمل ليلاً نهاراً.. إنها عملية بقاء مع الأسرة في فرجينيا، قريباً من واشنطن دي سي.

أخي الأوفى..

ليس هناك أصعب وأتعس وأقسى من أن يظلم الانسان أخاه، ابن عشيرته، ابن حيّه، وقد تنفّس كل منهما هواء الفصول، وشربا من نبع الحياة، ورغبا باقتطاف كل الثمرات المباحة، او التي تحمل شهامة لا خوف عليها.

وفي دمشق، كنت أعيش بين جدران بيتين:

أولاً، بيتي الذي أبيع أثاثه الذي اقتنيت منذ سنوات وسنوات، ويحز في قلبي اني أبيع ما كانت تصبو إليه نفسي: الكتب يا شربل، مقدسات الفكر، خلاصة المشاعل الحضارية، أبيعها لتاجر يجمع الكتب بأنواعها، والمجلات بألوانها، ليبيعها على الأرصفة بدمشق، وليخبىء بعضها فيتاجر بها.. خناجر من الحزن والألم والشقاء كانت تحز في جوارحي لحظة كنت أقدم كتبي للبيع.. والثمن بحس.. كثمن الانسان في بلدي، عفواً، في بلدنا.

وأنظر.. هذا السرير نمت عليه، والنافذة تلك فتحتها للشمس، وهذه غرفة السفرة، يشتريها تاجر هو موظف بالجمرك.. ووو.. وعملية البيع أخذت مني كل ألأوقات، وجلبت عليّ التعاسات، وعرفت أشخاصاً على حقيقتهم، فمنهم، وهم قلة، وقفوا معي بعواطفهم، واستعدادهم للبذل. ولا بد من أن أشرح لك الاسباب التي دفعتني للرحيل.

ومنهم من كانت صداقتي لهم تزيد على عمر بيتي هذا، يستغربون ثمن الأثاث، وثمن الكتب، وأشهروا بوجهي سيف المقاطعة، بل سيف النكران لعهد كان بيننا، وصداقة كنت أظنها وطيدة، لكنها تهافتت.. رغم أنهم لم يشتروا ، ولم يشجعوا، ولم يخففوا عني بكلمة، بل كانوا ينقبّون عني: لماذا تسافر؟ وأين؟ ومتى تعود؟ وهل من الضروري السفر؟ الخ. مما لا يجروء قلمي على ذكره، ويا للأسف. وهم يعلمون أن عليّ أمانات عقب ترحيل زوجتي، ثم ترحيل ابنتي، ثم ترحيلي إلى فرجينيا، والأمر كان في غاية التعقيد، لولا رحمة ربك.

ومهما تحدثت إلى قلبك الكبير، فإن لي به خفقة مودة تخفف عني متاعب تلك المرحلة، ومتاعب هذه المرحلة التي أستعد بها فأعمل في الأكايمية مدرساً للغة العربية وآدابها، وأضع نصب عينيّ تدريس مادة ألأدب الحديث والنقد المعاصر في إحدى أقسام الدراسات الشرقية في إحدى الجامعات، لكن هذه الفكرة الأخيرة تحتاج إلى وقت، وإلى صبر، وإلى دراس للإنكليزية، حيث أني أضعف من ينطق بها الآن، وتحتاج إلى إقامة دائمة، وإلى بحث مستفيض، وإلى نوع من المساعي الطيبة لدى المطلعين على هذا الأمر.

ثانياً: البيت في ساحة عرنوس، كنت أقرأه وقرأته بدمشق، فعشت في بيتين معاً، وخاصة وأن البيت في ساحة عرنوس قريب من بيتي في دمشق، زرته، لا يفرق بيننا سوى شارعين صغيرين، بينهما مخفر الشرطة والشرطة في خدمة الشعب كما يعلنون.

والآن، عدت إلى البيت فر عرنوس لقراءة جدرانه، ومعرفة أحوال من كان قبل عشرين سنة من باعة ودكاكين. صحيح إني بعت البيت في دمشق بثمن بخس، لكن بقي معي البيت في عرنوس، أقلب صفحاته، وأتصور أماكن الأحداث، وأرى الأماكن التي بقيت حتى الآن، وما الذي طرأ عليها.

الأخ الأوفى..

اعذرني.. اعذرني، فقد أطلت، ونحن في القارتين غريبان، وكل غريب للغريب نسيب، وأنت لم تكن ولن تكون غريباً عني، فأنت الأخ الأوفى، حماك الله من السوء ومن أهله، ومن دعاة الزيف.

مع تحياتي المخلصة للدكتورة سمر العطار، والأخ كامل المر، وأرجو أن أوفق فأطوف في مشواره معك.

إلى اللقاء، واسلم لأخيك

محمد زهير الباشا
**